الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
[مَدَارِجُ السَّالِكِينَ بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] الجزء الثاني
وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: مَنْزِلَةُ الْإِخْبَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ثُمَّ كَشَفَ عَنْ مَعْنَاهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وَ " الْخَبْتُ " فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ لَفَظَ الْمُخْبِتَيْنِ وَقَالَا: هُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُخْبِتُ: الْمُطْمَئِنُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَالْخَبْتُ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَاشِعُونَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْمُصَلُّونَ الْمُخْلِصُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهُمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ، وَإِذَا ظَلَمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَدُورُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: التَّوَاضُعِ، وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِذَلِكَ عُدِّي بِـ " إِلَى " تَضْمِينًا لِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ، وَالْإِنَابَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": " هُوَ مِنْ أَوَّلِ مَقَامَاتِ الطُّمَأْنِينَةِ ". كَالسَّكِينَةِ، وَالْيَقِينِ، وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ وَنَحْوِهَا. فَالْإِخْبَاتُ مُقَدِّمَتُهَا وَمَبْدَؤُهَا. قَالَ: وَهُوَ وُرُودُ الْمَأْمَنِ مِنَ الرُّجُوعِ وَالتَّرَدُّدِ. لَمَّا كَانَ الْإِخْبَاتُ أَوَّلَ مَقَامٍ يَتَخَلَّصُ فِيهِ السَّالِكُ مِنَ التَّرَدُّدِ- الَّذِي هُوَ نَوْعُ غَفْلَةٍ وَإِعْرَاضٍ- وَالسَّالِكُ مُسَافِرٌ إِلَى رَبِّهِ، سَائِرٌ إِلَيْهِ عَلَى مَدَى أَنْفَاسِهِ. لَا يَنْتَهِي مَسِيرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ نَفَسُهُ يَصْحَبُهُ- شَبَّهَ حُصُولَ الْإِخْبَاتِ لَهُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُسَافِرُ عَلَى ظَمَأٍ وَحَاجَةٍ فِي أَوَّلِ مَنَاهِلِهِ. فَيَرْوِيهِ مَوْرِدَهُ، وَيُزِيلُ عَنْهُ خَوَاطِرَ تَرَدُّدَهُ فِي إِتْمَامِ سَفَرِهِ، أَوْ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ. فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ الْمَاءَ زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ وَخَاطِرُ الرُّجُوعِ. كَذَلِكَ السَّالِكُ إِذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْإِخْبَاتِ تَخَلَّصَ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالرُّجُوعِ، وَنَزَلَ أَوَّلَ مَنَازِلِ الطُّمَأْنِينَةِ بِسِفْرِهِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعِصْمَةُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْرِكَ الْإِرَادَةُ الْغَفْلَةَ. وَيَسْتَهْوِي الطَّلَبُ السَّلْوَةَ. الْمُرِيدُ السَّالِكُ: تَعْرِضُ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِهِ، تُضْعِفُ إِرَادَتَهُ. وَشَهْوَةٌ تَعَارُضُ إِرَادَتَهُ فَتَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ. وَرُجُوعٌ عَنْ مُرَادِهِ، وَسَلْوَةٌ عَنْهُ. فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْإِخْبَاتِ تَحْمِيهِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَتَسْتَغْرِقُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ. وَالْعِصْمَةُ هِيَ الْحِمَايَةُ وَالْحِفْظُ. وَالشَّهْوَةُ الْمَيْلُ إِلَى مَطَالِبِ النَّفْسِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ لِلشَّيْءِ الِاحْتِوَاءُ عَلَيْهِ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ. يَقُولُ: تَغْلِبُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ وَتَقْهَرُهَا، وَتَسْتَوْفِي جَمِيعَ أَجْزَائِهَا. فَإِذَا اسْتَوْفَتِ الْعِصْمَةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِخْبَاتِهِ وَدُخُولِهِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَنُزُولِهِ أَوَّلَ مَنَازِلِهَا، وَخَلَاصِهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مِنْ تَرَدُّدِ الْخَوَاطِرِ بَيْنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَالرُّجُوعِ وَالْعَزْمِ، إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ السَّكِينَةِ. وَتَسْتَدْرِكُ إِرَادَتُهُ غَفْلَتَهُ. وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَنَازِلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرِيدُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَطَنِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ. وَأَخَذَ فِي السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ أَحَاطَتْ إِرَادَتُهُ بِغَفْلَتِهِ. فَاسْتَدْرَكَهَا، وَاسْتَدْرَكَ بِهَا فَارِطَهَا. وَأَمَّا اسْتِهْوَاءُ طَلَبِهِ لِسَلْوَتِهِ فَهُوَ قَهْرُ مَحَبَّتِهِ لِسَلْوَتِهِ، وَغَلَبَتُهَا لَهُ. بِحَيْثُ تَهْوِي السَّلْوَةُ وَتَسْقُطُ، كَالَّذِي يَهْوِي فِي بِئْرٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ تَقْهَرَ فِيهِ وَارِدَ السَّلْوَةِ، وَتَدْفِنَهَا فِي هُوَّةٍ لَا تَحْيَا بَعْدَهَا أَبَدًا. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِصْمَتَهُ وَحِمَايَتَهُ تَقْهَرُ شَهْوَتَهُ. وَإِرَادَتُهُ تَقْهَرُ غَفْلَتَهُ. وَمَحَبَّتُهُ تَقْهَرُ سَلْوَتَهُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَنْقَضُّ إِرَادَتَهُ سَبَبٌ. وَلَا يُوحِشُ قَلْبَهُ عَارِضٌ. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فِتْنَةٌ.
هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُخْرَى. تَعْرِضُ لِصَادِقِ الْإِرَادَةِ: سَبَبٌ يَعْرِضُ لَهُ يَنْقُضُ عَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ. وَوَحْشَةٌ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِ طَلَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ تَفَرُّدِهِ. وَفِتْنَةٌ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، تَقْصِدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْآفَاتُ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ إِذَا قَوِيَتْ، وَجَدَّ بِهِ الْمَسِيرُ لَمْ يَنْقُضْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخَلُّفِ. وَالنَّقْضُ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ إِرَادَتِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ جِهَةِ سَفَرِهِ. وَلَا يُوحِشُ أُنْسَهُ بِاللَّهِ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ مِنَ الْعَوَارِضِ الشَّوَاغِلِ لِلْقَلْبِ، وَالْجَوَاذِبِ لَهُ عَمَّنْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ. وَالْعَارِضُ هُوَ الْمُخَالِفُ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَرِضُكَ فِي طَرِيقِكَ. فَيَجِيءُ فِي عَرْضِهَا. وَمِنْ أَقْوَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ عَارِضُ وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّادِقِينَ: انْفِرَادُكَ فِي طَرِيقِ طَلَبِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الطَّلَبِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تَسْتَوْحِشْ فِي طَرِيقِكَ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ. وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ الَّتِي تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَهِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ، تَمْنَعُهَا مِنْ مُطَالَعَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَارِضُ الْفِتْنَةِ. وَهَذِهِ الْعَزَائِمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَشْرَقَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَكَافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ الْيَقِينِ بِهَا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ عَيْنِ الْعِلْمِ ثَبَتَ. وَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَخَذَتْهُ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ. وَمَالَتْ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَتَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ وَتَمَكَّنَ فِيهَا ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ. هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لِلْفَنَاءِ فِي عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. وَصَارَ قَلْبُهُ مُطَّرِحًا لِأَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ. وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَدْحِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ عَلَامَةُ انْقِطَاعِ الْقَلْبِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ تُبَاشِرْهُ رُوحُ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ التَّعَلُّقِ بِهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَنَّ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْزِلِ لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُبْغِضٌ لَهَا مُتَمَنٍّ لِمُفَارَقَتِهَا. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ، عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ أَوْصَافِ الْعَبْدِ، مَذْمُومًا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كَسْبِيًّا، أَوْ خَلْقِيًّا. فَهُوَ شَدِيدُ اللَّائِمَةِ لَهَا. وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلَا تَصْبِرُ عَلَى السَّرَّاءِ. وَلَا عَلَى الضَّرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّوَّامَةُ هِيَ الْفَاجِرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَتَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ؟ وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ؟. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا زِدْتُ؟ وَإِنْ عَمِلَتْ شَرًّا قَالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ. إِنَّ الْمُؤْمِنَ- وَاللَّهِ- مَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِأَكْلَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا قُدُمًا، وَلَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَلَا يُعَاتِبُهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ، تَلُومُ نَفْسَهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي أَمْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَصْدُ: أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِصِدْقٍ كَرِهَ بَقَاءَهُ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَبَّلَهَا مَنْ بُذِلَتْ لَهُ. وَلِأَنَّهُ قَدْ قَرَّبَهَا لَهُ قُرْبَانًا. وَمَنْ قَرَّبَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْهُ لَيْسَ كَمَنْ رُدَّ عَلَيْهِ قُرْبَانُهُ. فَبَقَاءُ نَفْسِهِ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْقَوْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ، الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَمُحِقِّهِمْ وَمُبْطِلِهِمْ عَلَيْهَا أَنَّ النَّفْسَ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الْحِجَابَ. كَمَا قَالَ أَبُو يَزِيدٍ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: خَلِّ نَفْسَكَ وَتَعَالَ. فَالنَّفْسُ جَبَلٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ فِي طَرِيقِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلُّ سَائِرٍ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ. فَلَابُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ الْجَبَلِ أَوْدِيَةٌ وَشُعُوبٌ، وَعَقَبَاتٌ وَوُهُودٌ، وَشَوْكٌ وَعَوْسَجٌ، وَعَلِيقٌ وَشَبْرَقٌ، وَلُصُوصٌ يَقْتَطِعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى السَّائِرِينَ. وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ اللَّيْلِ الْمُدْلِجِينَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدُ الْإِيمَانِ، وَمَصَابِيحُ الْيَقِينِ تَتَّقِدُ بِزَيْتِ الْإِخْبَاتِ، وَإِلَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْمَوَانِعُ. وَتَشَبَّثَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْقَوَاطِعُ وَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّائِرِينَ فِيهِ رَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ قَطْعِهِ وَاقْتِحَامِ عَقَبَاتِهِ. وَالشَّيْطَانُ عَلَى قُلَّةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ صُعُودِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْهُ. فَيَتَّفِقُ مَشَقَّةُ الصُّعُودِ وَقُعُودُ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ عَلَى قُلَّتِهِ، وَضَعْفُ عَزِيمَةِ السَّائِرِ وَنِيَّتِهِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ وَالرُّجُوعُ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَكُلَّمَا رَقَى السَّائِرُ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ اشْتَدَّ بِهِ صِيَاحُ الْقَاطِعِ، وَتَحْذِيرُهُ وَتَخْوِيفُهُ، فَإِذَا قَطَعَهُ وَبَلَغَ قُلَّتَهُ: انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانًا. وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ السَّيْرُ، وَتَزُولُ عَنْهُ عَوَارِضُ الطَّرِيقِ، وَمَشَقَّةُ عَقَبَاتِهَا، وَيَرَى طَرِيقًا وَاسِعًا آمِنًا. يُفْضِي بِهِ إِلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَنَاهِلِ. وَعَلَيْهِ الْأَعْلَامُ. وَفِيهِ الْإِقَامَاتُ، قَدْ أُعِدَّتْ لِرَكْبِ الرَّحْمَنِ. فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ قُوَّةُ عَزِيمَةٍ، وَصَبْرُ سَاعَةٍ، وَشَجَاعَةُ نَفْسٍ، وَثَبَاتُ قَلْبٍ. وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
يَعْنِي أَنَّهُ- وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ النَّاقِصِينَ عَنْ دَرَجَتِهِ- إِلَّا أَنَّهُ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهِ وَامْتِلَاءِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مُلَاحَظَةِ حَالِ غَيْرِهِ، وَعَنْ شُهُودِ النِّسْبَةِ بَيْنَ حَالِهِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ. وَيَرَى اشْتِغَالَهُ بِذَلِكَ وَالْتِفَاتَهُ إِلَيْهِ نُزُولًا عَنْ مَقَامِهِ، وَانْحِطَاطًا عَنْ دَرَجَتِهِ، وَرُجُوعًا عَلَى عَقِبَيْهِ. فَإِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ- بِغَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ وَاخْتِيَارٍ- فَلْيُدَاوِهِ بِشُهُودِ الْمِنَّةِ، وَخَوْفِ الْمَكْرِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ الَّتِي يُوَافَى عَلَيْهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الزُّهْدِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}- إِلَى قَوْلِهِ- {وَخَيْرٌ أَمَلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَقَالَ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَقَالَ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِخْبَارِ بِخِسَّتِهَا، وَقِلَّتِهَا وَانْقِطَاعِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا. وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِشَرَفِهَا وَدَوَامِهَا. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا يُعَايِنُ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُؤْثِرُ مِنْهُمَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الزُّهْدِ وَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى ذَوْقِهِ. وَنَطَقَ عَنْ حَالِهِ وَشَاهِدِهِ. فَإِنَّ غَالِبَ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ عَنْ أَذْوَاقِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَالْكَلَامُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ أَوْسَعُ مِنَ الْكَلَامِ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَرَعُ تَرْكَ مَا تَخَافُ ضَرَرُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَأَجْمَعِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. لَيْسَ بِأَكْلِ الْغَلِيظِ، وَلَا لُبْسِ الْعَبَاءِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ:سَمِعْتُ سَرِيًّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَلَبَ الدُّنْيَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَحَمَاهَا عَنْ أَصْفِيَائِهِ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ وِدَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا لَهُمْ. وَقَالَ: الزُّهْدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فَالزَّاهِدُ لَا يَفْرَحُ مِنَ الدُّنْيَا بِمَوْجُودٍ. وَلَا يَأْسَفُ مِنْهَا عَلَى مَفْقُودٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الزُّهْدُ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالْمُلْكِ، وَالْحُبُّ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالرُّوحِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَلَاءِ: الزُّهْدُ هُوَ النَّظَرُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الزَّوَالِ، فَتَصْغُرُ فِي عَيْنَيْكَ، فَيَسْهُلُ عَلَيْكَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الزُّهْدُ وُجُودُ الرَّاحَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمُلْكِ. وَقَالَ أَيْضًا: الزُّهْدُ سُلُوُّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَنَفُضُّ الْأَيْدِي مِنَ الْأَمْلَاكِ. وَقِيلَ: هُوَ عُزُوفُ الْقَلْبِ عَنِ الدُّنْيَا بِلَا تَكَلُّفٍ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الزُّهْدُ خُلُوُّ الْقَلْبِ عَمَّا خَلَتْ مِنْهُ الْيَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ عَدَمُ فَرَحِهِ بِإِقْبَالِهَا. وَلَا حُزْنِهِ عَلَى إِدْبَارِهَا. فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. هَلْ يَكُونُ زَاهِدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ، وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ الثِّقَةُ بِاللَّهِ مَعَ حُبِّ الْفَقْرِ. وَهَذَا قَوْلُ شَقِيقٍ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الزُّهْدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالدِّرْهَمِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: تَرْكُ مَا يُشْغِلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشِّبْلِيِّ. وَسَأَلَ رُوَيْمٌ الْجُنَيْدَ عَنِ الزُّهْدِ؟ فَقَالَ: اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا، وَمَحْوُ آثَارِهَا مِنَ الْقَلْبِ. وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ خُلُوِّ الْيَدِ عَنِ الْمُلْكِ، وَالْقَلْبِ عَنِ التَّتَبُّعِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الزُّهْدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: عَمَلٌ بِلَا عَلَاقَةٍ، وَقَوْلٌ بِلَا طَمَعٍ، وَعِزٌّ بِلَا رِيَاسَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الزَّاهِدُ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ، وَالْعَارِفُ يُشِمُّكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ. وَقِيلَ: حَقِيقَتُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِي النَّفْسِ. وَهَذَا قَوْلُ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ. وَقِيلَ: الزُّهْدُ الْإِيثَارُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْفُتُوَّةُ: الْإِيثَارُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. وَقَالَ رَجُلٌ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى أَدْخُلُ حَانُوتَ التَّوَكُّلِ، وَأَلْبَسُ رِدَاءَ الزَّاهِدِينَ، وَأَقْعُدُ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: إِذَا صِرْتَ مِنْ رِيَاضَتِكَ لِنَفْسِكَ إِلَى حَدٍّ لَوْ قَطَعَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَنْكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ تَضْعُفْ نَفْسُكَ. فَأَمَّا مَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَجُلُوسُكَ عَلَى بِسَاطِ الزَّاهِدِينَ جَهْلٌ، ثُمَّ لَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَضِحَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ تَرْكُ الْحَرَامِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي تَرْكُ الْفُضُولِ مِنَ الْحَلَالِ. وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ. وَالثَّالِثُ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ، مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلِهِ وَتَبْيِينِ دَرَجَاتِهِ. وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْكَلَامِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. وَقَدْ شَهِدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِمَامَتِهِ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا الزُّهْدُ. وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعَارِفُونَ أَنَّ الزُّهْدَ سَفَرُ الْقَلْبِ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا، وَأَخْذُهُ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا صَنَّفَ الْمُتَقَدِّمُونَ كُتُبَ الزُّهْدِ. كَالزُّهْدِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَ لِوَكِيعٍ، وَلِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، وَلِغَيْرِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ. لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ الزُّهْدِ حَتَّى يَزْهَدَ فِيهَا. وَهِيَ الْمَالُ، وَالصُّوَرُ، وَالرِّيَاسَةُ، وَالنَّاسُ، وَالنَّفْسُ، وَكُلُّ مَا دُونُ اللَّهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَهَا مِنَ الْمُلْكِ. فَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ أَزْهَدِ أَهْلِ زَمَانِهِمَا. وَلَهُمَا مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالنِّسَاءِ مَا لَهُمَا. وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْهَدِ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وَكَانَ عَلِيُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَ الزُّبَيْرُ وَ عُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مِنَ الزُّهَّادِ. مَعَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الزُّهَّادِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ وَنِكَاحًا لَهُنَّ، وَأَغْنَاهُمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الزُّهَّادِ، مَعَ مَالٍ كَثِيرٍ. وَكَذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الزُّهَّادِ. وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ يَقُولُ: لَوْلَا هُوَ لَتَمَنْدَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ، كَلَامُ الْحَسَنِ أَوْ غَيْرِهِ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ. وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِكَ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ- إِذَا أُصِبْتَ بِهَا- أَرْغَبُ مِنْكَ فِيهَا لَوْ لَمْ تُصِبْكَ. فَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ كَلَامٍ فِي الزُّهْدِ وَأَحْسَنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الزُّهْدِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ. وَلَا حَلَالَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا زُهْدَ. وَخَالَفَهُ النَّاسُ فِي هَذَا. وَقَالُوا: بَلِ الْحَلَالُ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَفِيهَا الْحَرَامُ كَثِيرًا. وَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا الْحَلَالُ، فَهَذَا أَدْعَى إِلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَتَنَاوُلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْهَا، كَتَنَاوُلِهِ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَوْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا بَلَغَ فِي الزُّهْدِ مَنْزِلَةَ أَبِي ذَرٍّ وَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَ سَلْمَانَ وَ الْمِقْدَادِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا قُلْتُ لَهُ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّ الزُّهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ الْمَحْضِ. وَالْحَلَالُ الْمَحْضُ لَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنِ ارْتَكَبْتَهُ عَذَّبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُتَعَلِّقِ الزُّهْدِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الزُّهْدُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ فَرِيضَةٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَرَامِ. وَأَمَّا الْحَلَالُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَشُكْرُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَاتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إِلَى جَنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالتَّخَلِّي عَنْهَا، وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ شَغَلَتْهُ عَنِ اللَّهِ. فَالزُّهْدُ فِيهَا أَفْضَلُ. وَإِنْ لَمْ تَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ كَانَ شَاكِرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَحَالُهُ أَفْضَلُ. وَالزُّهْدُ فِيهَا تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الزُّهْدُ هُوَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكُلِّيَّةِ. يُرِيدُ بِالشَّيْءِ الْمَزْهُودِ فِيهِ مَا سِوَى اللَّهِ. وَالْإِسْقَاطُ عَنْهُ إِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ وَإِسْقَاطُ تَعَلُّقِ الرَّغْبَةِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَيْ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ. قَالَ: وَهُوَ لِلْعَامَّةِ قُرْبَةٌ. وَلِلْمُرِيدِ ضَرُورَةٌ. وَلِلْخَاصَّةِ خَشْيَةٌ الزُّهْدُ. يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْقُرْبَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ. وَهُوَ ضَرُورَةٌ لِلْمُرِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّخَلِّي بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، إِلَّا بِإِسْقَاطِ الرَّغْبَةِ فِيمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الزُّهْدِ، كَضَرُورَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. إِذِ التَّعَلُّقُ بِسِوَى مَطْلُوبِهِ لَا يَعْدِمُ مِنْهُ حِجَابًا، أَوْ وَقْفَةً، أَوْ نَكْسَةً، عَلَى حَسَبِ بُعْدِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ مَطْلُوبِهِ، وَقُوَّةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ وَضَعْفِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ خَشْيَةً لِلْخَاصَّةِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَقُرَّةِ عُيُونِهِمْ بِهِ أَنْ يَتَكَدَّرَ عَلَيْهِمْ صَفْوُهُ بِالْتِفَاتِهِمْ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ. فَزُهْدُهُمْ خَشْيَةٌ وَخَوْفٌ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ. بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ، وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ. أَمَّا الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ فَهُوَ تَرْكُ مَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْعَبْدِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ؟ كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ. وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ. وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ. لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اتَّقَى الْحَرَامَ. وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى. يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى. أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. فَالشُّبُهَاتُ بَرْزَخٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُتَبَايِنَيْنِ بَرْزَخًا، كَمَا جَعَلَ الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ بَرْزَخًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ الْمَعَاصِيَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَجَعَلَ الْأَعْرَافَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَشْعَرَيْنِ مِنْ مَشَاعِرَ الْمَنَاسِكِ بَرْزَخًا حَاجِزًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. فَمُحَسِّرٌ بَرْزَخٌ بَيْنَ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، لَيْسَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَبِيتُ بِهِ الْحَاجُّ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَلَا لَيَالِيَ مِنًى. وَبَطْنُ عُرَنَةَ بَرْزَخٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْحَرَمِ. فَلَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ عَرَفَةَ. وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ بَرْزَخٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ، لِتَصَرُّمِهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَا مِنَ النَّهَارِ لِأَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَإِنْ دَخَلَ فِي اسْمِ الْيَوْمَ شَرْعًا. وَكَذَلِكَ مَنَازِلُ السَّيْرِ بَيْنَ كُلِّ مَنْزِلَتَيْنِ بَرْزَخٌ يَعْرِفُهُ السَّائِرُ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْوَارِدَاتِ تَكُونُ بَرَازِخَ، فَيَظُنُّهَا صَاحِبُهَا غَايَةً. وَهَذَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا فُقَهَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الْأَدِلَّةُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ؛ أَيْ تَرْكِ الشُّبْهَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ تَرْكِهِ لِلشُّبْهَةِ الْحَذَرُ مِنْ تَوَجُّهِ عَتَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ؛ أَيْ يَأْنَفُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنَيْهِ. لَا أَنَفَتُهُ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ أُعِينُهُمْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ تَكُونَ أَنَفَتُهُ كُلُّهَا مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَأْنَفُ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ؛ يَعْنِي أَنَّ الْفُسَّاقَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى مَوَاضِعِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَلِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ بِهِمْ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ. فَالزَّاهِدُ يَأْنَفُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ. وَيَرْفَعُ نَفْسَهُ عَنْهَا، لِخِسَّةِ شُرَكَائِهِ فِيهَا، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا الَّذِي زَهَّدَكَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: قِلَّةُ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةُ جَفَائِهَا، وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا. إِذَا لَمْ أَتْرُكِ الْمَاءَ اتِّقَاءً *** تَرَكْتُ لِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ *** رَفَعَتْ يَدَيْ وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَتَجْتَنِبُ الْأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ *** إِذَا كَانَ الْكِلَابُ يَلِغْنَ فِيهِ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِي الْفُضُولِ. وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْمُسْكَةِ وَالْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ، بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّغِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ. وَحَسْمِ الْجَأْشِ، وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. الْفُضُولُ مَا يَفْضُلُ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ. وَالْمُسْكَةُ مَا يَمْسِكُ النَّفْسَ مِنَ الْقُوتِ وَالشَّرَابِ، وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَنْكَحِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَالْبَلَاغُ هُوَ الْبُلْغَةُ مِنْ ذَلِكَ، الَّذِي يَتَبَلَّغُ بِهِ الْمُسَافِرُ فِي مَنَازِلَ السَّفَرِ. فَيَزْهَدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، اغْتِنَامًا لِتَفَرُّغِهِ لِعِمَارَةِ وَقْتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى خَوْفًا مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَحَذَرًا مِنَ الْمَنْقَصَةِ كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَعْلَى وَأَرْفَعَ. وَهُوَ اغْتِنَامُ الْفَرَاغِ لِعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِفُضُولِ الدُّنْيَا، فَاتَهُ نَصِيبُهُ مِنَ انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْوَقْتِ. فَالْوَقْتُ سَيْفٌ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَعِمَارَةُ الْوَقْتِ الِاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ أَوْ مُشْرَبٍ، أَوْ مَنْكَحٍ، أَوْ مَنَامٍ، أَوْ رَاحَةٍ. فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُسْخِطُهُ. كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَتَمُّ لَذَّةٍ فَلَا تُحْسَبُ عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ. فَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ الْقَلْبِيُّ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، وَجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ، أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ الْبَدَنِيِّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ- وَهُوَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ- حَالٌ لَا يَعْهَدُهَا فِي غَيْرِهَا. وَلِهَذَا سَبَبٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ اجْتِمَاعُ قُوَى النَّفْسِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهَا حِينَئِذٍ إِلَى شَيْءٍ، مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. وَالسُّرُورُ يُذَكِّرُ بِالسُّرُورِ. وَاللَّذَّةُ تُذَكِّرُ بِاللَّذَّةِ. فَتَنْهَضُ الرُّوحُ مِنْ تِلْكَ الْفَرْحَةِ وَاللَّذَّةِ إِلَى مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَهَا بِتِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ، وَقَطْعِ أَسْبَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ حَالًا عَجِيبَةً. وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ. وَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ عِنْدَ هُجُومِ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ لَهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَيْفَ تَرَاهُ؟ فَهَكَذَا حَالُ غَيْرِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا نَالَتْ حَظًّا صَالِحًا مِنَ الدُّنْيَا قَوِيتْ بِهِ وَسُرَّتْ، وَاسْتَجْمَعَتْ قُوَاهَا وَجَمْعِيَّتَهَا. وَزَالَ تَشَتُّتُهَا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ. فَقَدْ طَغَى الْقَلَمُ. وَزَادَ الْكَلِمُ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مَقْتِكَ. وَأَمَّا حَسْمُ الْجَأْشِ فَهُوَ قَطْعُ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ، الْمُتَعَلِّقِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا، رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وِحُبًّا وَبُغْضًا، وَسَعْيًا. فَلَا يَصِحُّ الزُّهْدُ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الِاضْطِرَابَ مِنْ قَلْبِهِ. بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِهَا فِي حَالَتَيْ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَتَرْكِهِ. فَإِنَّ الزُّهْدَ زُهْدُ الْقَلْبِ، لَا زُهْدُ التَّرْكِ مِنَ الْيَدِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. فَهُوَ تَخَلِّي الْقَلْبِ عَنْهَا. لَا خُلُوُّ الْيَدِ مِنْهَا. وَأَمَّا التَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَقًّا. إِذْ هُمْ مُشَمِّرُونَ إِلَى عَلَمٍ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ غَيْرُهَا. فَهُمْ زَاهِدُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَهَا مُبَاشِرِينَ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ. وَهُوَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِحْقَارُ مَا زَهِدْتَ فِيهِ. وَاسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَكَ. وَالذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ، نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ. وَقَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِالزُّهْدِ فِي الزُّهْدِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: احْتِقَارُهُ مَا زَهِدَ فِيهِ. فَإِنَّ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لَا يَرَى أَنَّ مَا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ مِنَ الدُّنْيَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ قُرْبَانًا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. فَالْعَارِفُ لَا يَرَى زُهْدَهُ فِيهَا كَبِيرَ أَمْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَيُحْتَفَلُ لَهُ، فَيَسْتَحِي مَنْ صَحَّ لَهُ الزُّهْدُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ قَدْرًا يُلَاحَظُ زُهْدَهُ فِيهِ، بَلْ يَفْنَى عَنْ زُهْدِهِ فِيهِ كَمَا فَنِيَ عَنْهُ. وَيَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ، وَشُهُودِهِ بِقَلْبِهِ. وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَنْ يَرَى تَرْكَ مَا زَهِدَ فِيهِ وَأَخْذَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَهُ. إِذْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ فِقْهِ الزُّهْدِ. فَيَكُونُ زَاهِدًا فِي حَالِ أَخْذِهِ، كَمَا هُوَ زَاهِدٌ فِي حَالِ تَرْكِهِ، إِذْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ مُلَاحَظَتِهِ أَخْذًا وَتَرْكًا، لِصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ. وَأَمَّا الذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَاسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَرَ أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً الْبَتَّهَ؛ لِأَنَّهَا أَصْغَرُ فِي عَيْنِهِ مِنْ أَنْ يَرَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا الدَّرَجَاتِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُشَاهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ. فَلَا يَرَى أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ مَجْرًى لِعَطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ، كَمَجْرَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ. وَمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ. فَيَذْهَبُ بِمُشَاهَدَةِ الْفَعَّالِ وَحْدَهُ عَنْ شُهُودِ كَسْبِهِ وَتَرْكِهِ. فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ، وَسَلَكَ فِي وَادِي الْحَقِيقَةِ، غَابَ عَنْ شُهُودِ اكْتِسَابِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ. فَهَذَا زُهْدُ الْخَاصَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا زَهَّدَتْنِي فِي الْهَوَى خَشْيَةُ الرَّدَى *** جَلَتْ لِي عَنْ وَجْهٍ يُزَهِّدُ فِي الزُّهْدِ
وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنْبِ. فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، النَّخَعِيِّ وَ الضَّحَّاكِ، وَ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا غَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ: وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ *** لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ: طَاهِرُ الثِّيَابِ. وَتَقُولُ لِلْغَادِرِ وَالْفَاجِرِ: دَنِسُ الثِّيَابِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى الْغَدْرِ، وَالظُّلْمِ وَالْإِثْمِ. وَلَكِنِ الْبِسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ طَاهِرُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. قَالَ السَّعْدِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا: إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ. وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا: إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَقَلْبَكَ وَبَيْتَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَ الْقُرَظِيُّ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَتَطَهَّرُونَ، وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ: وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةً لَهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَطْهِيرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَتَقْصِيرَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّطْهِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ بِهِ تَمَامُ إِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الظَّاهِرِ تُورِثُ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِزَالَتِهَا وَالْبُعْدِ عَنْهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَرِعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ الْقَلْبِ وَنَجَاسَتَهُ. كَمَا يُطَهِّرُ الْمَاءُ دَنَسَ الثَّوْبِ وَنَجَاسَتَهُ. وَبَيْنَ الثِّيَابِ وَالْقُلُوبِ مُنَاسِبَةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ. وَلِذَلِكَ تَدُلُّ ثِيَابُ الْمَرْءِ فِي الْمَنَامِ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَيُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ. وَلِهَذَا نَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَجُلُودِ السِّبَاعِ، لِمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَالْخُشُوعِ. وَتَأْثِيرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ فِي الثِّيَابِ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ نَظَافَتِهَا وَدَنَسِهَا وَرَائِحَتِهَا، وَبَهْجَتِهَا وَكَسْفَتِهَا، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَ الْبَرِّ لَيُعْرَفُ مِنْ ثَوْبِ الْفَاجِرِ، وَلَيْسَا عَلَيْهِمَا. وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ: " مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ " فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَتَرْكُ مَالَا يَعْنِيكَ هُوَ تَرْكُ الْفَضَلَاتِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ. قَالَ الشِّبْلِيُّ: الْوَرَعُ أَنْ يُتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ: الْوَرَعُ فِي الْمَنْطِقِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُمَا يُبْذَلَانِ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْوَرَعُ أَوَّلُ الزُّهْدِ، كَمَا أَنَّ الْقَنَاعَةَ أَوَّلُ الرِّضَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَالَ: الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، فَوَرَعُ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَوَرَعُ الْبَاطِنِ هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِوَاهُ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الدَّقِيقِ مِنَ الْوَرَعِ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ. وَقِيلَ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَرَكُ السَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ: مَنْ دَقَّ فِي الدُّنْيَا وَرَعُهُ- أَوْ نَظَرُهُ- جَلَّ فِي الْقِيَامَةِ خَطَرُهُ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَسْهَلَ مِنَ الْوَرَعِ، مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ فَاتْرُكْهُ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْحَلَالُ هُوَ الَّذِي لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ، وَالصَّافِي مِنْهُ الَّذِي لَا يُنْسَى اللَّهُ فِيهِ، وَسَأَلَ الْحَسَنُ غُلَامًا. فَقَالَ لَهُ: مَا مِلَاكُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ. قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ. فَعَجِبَ الْحَسَنُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جُلَسَاءُ اللَّهِ غَدًا أَهْلُ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ. وَقَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْوَرَعُ تَعْرِيفُهُ تَوْقٌ مُسْتَقْصًى عَلَى حَذَرٍ. وَتَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ. يَعْنِي أَنْ يَتَوَقَّى الْحَرَامَ وَالشُّبَهَ، وَمَا يَخَافُ أَنْ يَضُرَّهُ أَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ التَّوَقِّي؛ لِأَنَّ التَّوَقِّيَ وَالْحَذَرَ مُتَقَارِبَانِ. إِلَّا أَنَّ التَّوَقِّيَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ. وَالْحَذَرُ فِعْلُ الْقَلْبِ. فَقَدْ يَتَوَقَّى الْعَبْدُ الشَّيْءَ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَذَرِ وَالْخَوْفِ. وَلَكِنْ لِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ إِظْهَارِ نَزَاهَةٍ، وَعِزَّةٍ وَتَصَوُّفٍ، أَوِ اعْتِرَاضٍ آخَرَ، كَتَوَقِّي الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَعَادٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ مَا يَتَوَقَّوْنَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالدَّنَاءَةِ، تَصَوُّنًا عَنْهَا، وَرَغْبَةً بِنُفُوسِهِمْ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَطَلَبًا لِلْمَحْمَدَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: " أَوْ تَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ " يَعْنِي أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْوَرَعِ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالشُّبَهِ إِمَّا حَذَرُ حُلُولِ الْوَعِيدِ، وَإِمَّا تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَإِجْلَالًا لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا نَهَى عَنْهُ. فَالْوَرَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ: إِمَّا تَخَوُّفٌ، أَوْ تَعْظِيمٌ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ التَّعْظِيمِ عَنْ ذِكْرِ الْحُبِّ الْبَاعِثِ عَلَى تَرْكِ مَعْصِيَةِ الْمَحْبُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَعْظِيمِهِ. وَإِلَّا فَلَوْ خَلَا الْقَلْبُ مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ مَحَبَّتُهُ تَرْكَ مُخَالَفَتِهِ؛ كَمَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ. فَإِذَا قَارَنَهُ التَّعْظِيمُ أَوْجَبَ تَرْكَ الْمُخَالَفَةِ. قَالَ: وَهُوَ آخِرُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْعَامَّةِ، وَأَوَّلُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْمُرِيدِ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّوَقِّيَ وَالتَّحَرُّجَ- بِوَصْفِ الْحَذَرِ وَالتَّعْظِيمِ- هُوَ نِهَايَةٌ لِزُهْدِ الْعَامَّةِ، وَبِدَايَةٌ لِزُهْدِ الْمُرِيدِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَرَعَ- كَمَا تَقَدَّمَ- هُوَ أَوَّلُ الزُّهْدِ وَرُكْنُهُ، وَزُهْدُ الْمُرِيدُ فَوْقَ زُهْدِ الْعَامَّةِ. وَنِهَايَةُ الْعَامَّةِ هِيَ بِدَايَةُ الْمُرِيدِ. فَنِهَايَةُ مَقَامِ هَذَا هِيَ بِدَايَةُ مَقَامِ هَذَا. فَإِذَا انْتَهَى وَرَعُ الْعَامَّةِ صَارَ زُهْدًا. وَهُوَ أَوَّلُ وَرَعِ الْمُرِيدِ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجَنُّبُ الْقَبَائِحِ لِصَوْنِ النَّفْسِ. وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ. وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ. هَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ مِنْ فَوَائِدِ تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ. إِحْدَاهَا: صَوْنُ النَّفْسِ. وَهُوَ حِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يَشِينُهَا، وَيَعِيبُهَا وَيُزْرِي بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَائِرِ خَلْقِهِ. فَإِنَّ مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَكَبُرَتْ عِنْدَهُ صَانَهَا وَحَمَاهَا، وَزَكَّاهَا وَعَلَّاهَا، وَوَضَعَهَا فِي أَعْلَى الْمَحَالِّ. وَزَاحَمَ بِهَا أَهْلَ الْعَزَائِمِ وَالْكِمَالَاتِ. وَمَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَصَغُرَتْ عِنْدَهُ أَلْقَاهَا فِي الرَّذَائِلِ. وَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، وَحَلَّ زِمَامَهَا وَأَرْخَاهُ. وَدَسَّاهَا وَلَمْ يَصُنْهَا عَنْ قَبِيحٍ. فَأَقَلُّ مَا فِي تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ: صَوْنُ النَّفْسِ. وَأَمَّا تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَوْفِيرُ زَمَانِهِ عَلَى اكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ. فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَبَائِحِ نَقَصَتْ عَلَيْهِ الْحَسَنَاتُ الَّتِي كَانَ مُسْتَعِدًّا لِتَحْصِيلِهَا. وَالثَّانِي: تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ الْمُفَعْوِلَةِ عَنْ نُقْصَانِهَا بِمُوَازَنَةِ السَّيِّئَاتِ وَحُبُوطِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ تَسْتَغْرِقُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ تُنْقِصُهَا. فَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهَا قَطْعًا، فَتَجَنُّبُهَا يُوَفِّرُ دِيوَانَ الْحَسَنَاتِ. وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ مَالٌ حَاصِلٌ. فَإِذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ الدَّيْنُ أَوْ يُكْثِرَهُ أَوْ يُنْقِصَهُ، فَهَكَذَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ سَوَاءً. وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ- كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ- إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ. وَإِنْ عَادَ فَأَذْنَبَ نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَذَلِكَ الرَّانُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ. وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ. وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا. فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ. وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ سَبَبٌ لِلرَّانِّ الَّذِي يَعْلُوهَا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْكَسَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا كَسَبُوا. فَقَالَ: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. وَأَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ سَبَبٌ لِتَقْسِيَةِ الْقَلْبِ. فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. فَجَعَلَ ذَنْبَ النَّقْضِ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ تَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ، وَنِسْيَانِ الْعِلْمِ. فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ. فَإِيمَانُ صَاحِبِ الْقَبَائِحِ كَقُوَّةِ الْمَرِيضِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ- وَهِيَ صَوْنُ النَّفْسِ، وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ- هِيَ أَرْفَعُ مِنْ بَاعِثِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَرَعِ دَرَجَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَرْفَعُ هِمَّةً، لِأَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَصَوْنِهَا، وَتَأْهِيلِهَا لِلْوُصُولِ إِلَى رَبِّهَا. فَهُوَ يَصُونُهَا عَمَّا يَشِينُهَا عِنْدَهُ. وَيَحْجُبُهَا عَنْهُ. وَيَصُونُ حَسَنَاتِهِ عَمَّا يُسْقِطُهَا وَيَضَعُهَا؛ لِأَنَّهُ يَسِيرُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ. وَيَطْلُبُ بِهَا رِضَاهُ. وَيَصُونُ إِيمَانَهُ بِرَبِّهِ مِنْ حُبِّهِ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ إِيَّاهُ عَمَّا يُطْفِئُ نُورَهُ. وَيُذْهِبُ بَهْجَتَهُ، وَيُوهِنُ قُوَّتَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: " وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الصِّفَاتِ: هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى مِنْ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ دَرَجَاتُ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ ". يَعْنِي أَنَّ لِلْمُرِيدِينَ دَرَجَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنَ الْوَرَعِ فَوْقَ هَذِهِ. ثُمَّ ذَكَرَهُمَا فَقَالَ:
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: حِفْظُ الْحُدُودِ عِنْدَ مَالَا بَأْسَ بِهِ، إِبْقَاءً عَلَى الصِّيَانَةِ وَالتَّقْوَى الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ. وَصُعُودًا عَنِ الدَّنَاءَةِ. وَتَخَلُّصًا عَنِ اقْتِحَامِ الْحُدُودِ. يَقُولُ: إِنَّ مَنْ صَعَدَ عَنِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْوَرَعِ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ الْمُبَاحِ، إِبْقَاءً عَلَى صِيَانَتِهِ، وَخَوْفًا عَلَيْهَا أَنْ يَتَكَدَّرَ صَفْوُهَا. وَيُطْفَأَ نُورُهَا. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ يُكَدِّرُ صَفْوَ الصِّيَانَةِ، وَيُذْهِبُ بَهْجَتَهَا، وَيُطْفِئُ نُورَهَا، وَيُخْلِقُ حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا. وَقَالَ لِي يَوْمًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحِ: هَذَا يُنَافِي الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ شَرْطًا فِي النَّجَاةِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَالْعَارِفُ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ إِبْقَاءً عَلَى صِيَانَتِهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُبَاحُ بَرْزَخًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا- كَمَا تَقَدَّمَ- فَتَرْكُهُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَالْمُتَعَيِّنِ الَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ لِمُنَافَاتِهِ لِدَرَجَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَصَاحِبِ هَذِهِ: أَنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الصِّيَانَةِ. وَهَذَا يَسْعَى فِي حِفْظِ صَفْوِهَا أَنْ يَتَكَدَّرَ، وَنُورِهَا أَنْ يُطْفَأَ وَيَذْهَبَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِبْقَاءً عَلَى الصِّيَانَةِ. وَأَمَّا الصُّعُودُ عَنِ الدَّنَاءَةِ فَهُوَ الرَّفْعُ عَنْ طُرُقَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا. وَأَمَّا التَّخَلُّصُ عَنِ اقْتِحَامِ الْحُدُودِ، فَالْحُدُودُ هِيَ النِّهَايَاتُ. وَهِيَ مَقَاطِعُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. فَحَيْثُ يَنْقَطِعُ وَيَنْتَهِي، فَذَلِكَ حَدُّهُ. فَمَنِ اقْتَحَمَهُ وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ وَقُرْبَانِهِ. فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}. فَإِنَّ الْحُدُودَ يُرَادُ بِهَا أَوَاخِرُ الْحَلَالِ. وَحَيْثُ نَهَى عَنِ الْقُرْبَانِ فَالْحُدُودُ هُنَاكَ: أَوَائِلُ الْحَرَامِ. يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لَا تَتَعَدُّوا مَا أَبَحْتُ لَكُمْ، وَلَا تَقْرُبُوا مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ. فَالْوَرِعُ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ قُرْبَانِ هَذِهِ وَتَعَدِّي هَذِهِ. وَهُوَ اقْتِحَامُ الْحُدُودِ.
وَقَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ: التَّوَرُّعُ عَنْ كُلِّ دَاعِيَةٍ تَدْعُو إِلَى شَتَاتِ الْوَقْتِ. وَالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَرُّقِ. وَعَارِضٍ يُعَارِضُ حَالَ الْجَمْعِ. الْفَرْقُ بَيْنَ شَتَاتِ الْوَقْتِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَرُّقِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَإِنَّهُ يَتَشَتَّتُ وَقْتَهُ. فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ الْحَقِّ. إِذْ لَا تَعْطِيلَ فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الْإِرَادَةِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مُرَادَهُ أَرَادَ مَا سِوَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَحْدَهُ مَعْبُودَهُ عَبَدَ مَا سِوَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ لِلَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. فَالْمُخْلِصُ يَصُونُهُ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَخَشِيَتِهِ وَحْدَهُ، وَرَجَائِهِ وَحْدَهُ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَعْلَى مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: لِأَنَّ أَرْبَابَهَا اشْتَغَلُوا بِحِفْظِ الصِّيَانَةِ مِنَ الْكَدَرِ وَمُلَاحَظَتِهَا. وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: تَفَرُّقٌ عَنِ الْحَقِّ. وَاشْتِغَالٌ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ بِحَالِ نُفُوسِهِمْ. فَأَدَبُ أَهْلِ هَذِهِ أَدَبُ حُضُورٍ، وَأَدَبُ أُولَئِكَ أَدَبُ غَيْبَةٍ. وَأَمَّا " الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ حَالَ الْجَمْعِ ". فَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْعَبْدُ شُهُودَ فَنَائِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَجَمْعِيَّتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ هَذَا الْفَنَاءَ وَالْجَمْعِيَّةَ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّيْخِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا مَطْلَبٌ جَعَلَ كُلَّ حَالٍ يُعَارِضُهَا وَيَقْطَعُ عَنْهَا نَاقِصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. فَالرَّغْبَةُ عَنْهُ غَيْرُ وَرَعِ صَاحِبِهَا. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَأَنَّ فَوْقَ هَذَا مَقَامٌ أَرْفَعُ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهُوَ الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ مِنْكَ، وَلَوْ كَانَ الْحَظُّ فَنَاءً وَجَمْعِيَّةً، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَنَاءَ وَالْجَمْعِيَّةَ حَظُّ الْعَبْدِ. وَأَنَّ حَقَّ الرَّبِّ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ الْبَقَاءُ بِمُرَادِهِ فَرْقًا وَجَمْعًا بِهِ وَلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَرِعُ الْخَاصُّ: الْوَرِعُ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ حَالَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَالْبَقَاءِ بِهِ فَرْقًا وَجَمْعًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
الْخَوْفُ يُثْمِرُ الْوَرَعَ وَالِاسْتِعَانَةَ وَقِصَرَ الْأَمَلِ. وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللِّقَاءِ تُثْمِرُ الزُّهْدَ. وَالْمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ الْمَحَبَّةَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ. وَالْقَنَاعَةُ تُثْمِرُ الرِّضَاءَ. وَالذِّكْرُ يُثْمِرُ حَيَاةَ الْقَلْبِ. وَالْإِيمَانُ بِالْقَدْرِ يُثْمِرُ التَّوَكُّلَ. وَدَوَامُ تَأَمُّلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ. وَالْوَرَعُ يُثْمِرُ الزُّهْدَ أَيْضًا. وَالتَّوْبَةُ تُثْمِرُ الْمَحَبَّةَ أَيْضًا، وَدَوَامُ الذِّكْرِ يُثْمِرُهَا. وَالرِّضَا يُثْمِرُ الشُّكْرَ. وَالْعَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ يُثْمِرَانِ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. وَالْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُثْمِرُ الْآخَرَ وَيَقْتَضِيهِ. وَالْمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ الْخُلُقَ. وَالْفِكْرُ يُثْمِرُ الْعَزِيمَةَ. وَالْمُرَاقَبَةُ تُثْمِرُ عِمَارَةَ الْوَقْتِ، وَحِفْظَ الْأَيَّامِ وَالْحَيَاءَ، وَالْخَشْيَةَ وَالْإِنَابَةَ. وَإِمَاتَةُ النَّفْسِ وَإِذْلَالُهَا وَكَسْرُهَا يُوجِبُ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَعِزَّهُ وَجَبْرَهُ. وَمَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَمَقْتُهَا يُوجِبُ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِكْثَارَ مَا مِنْهُ، وَاسْتِقْلَالَ مَا مِنْكَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَمَحْوَ أَثَرِ الدَّعْوَى مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَصِحَّةُ الْبَصِيرَةِ تُثْمِرُ الْيَقِينَ. وَحَسَنُ التَّأَمُّلِ لِمَا تَرَى وَتَسْمَعُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ وَالْمَتْلُوَّةِ يُثْمِرُ صِحَّةَ الْبَصِيرَةِ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَنْقُلَ قَلْبَكَ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا فَتُسْكِنَهُ فِي وَطَنِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ تُقْبِلَ بِهِ كُلِّهِ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ وَاسْتِجْلَائِهَا وَتَدَبُّرِهَا، وَفَهْمِ مَا يُرَادُ مِنْهُ وَمَا نَزَلْ لِأَجْلِهِ، وَأَخْذِ نَصِيبِكَ وَحَظِّكَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَتُنْزِلَهَا عَلَى دَاءِ قَلْبِكَ. فَهَذِهِ طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ قَرِيبَةٌ سَهْلَةٌ. مُوَصِّلَةٌ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. آمِنَةٌ لَا يَلْحَقُ سَالِكَهَا خَوْفٌ وَلَا عَطَبٌ، وَلَا جَوْعٌ وَلَا عَطَشٌ، وَلَا فِيهَا آفَةٌ مِنْ آفَاتِ سَائِرِ الطَّرِيقِ الْبَتَّةَ. وَعَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَارِسٌ وَحَافِظٌ يَكْلَأُ السَّالِكِينَ فِيهَا وَيَحْمِيهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ إِلَّا مِنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّاسِ وَغَوَائِلَهَا وَآفَاتِهَا وَقُطَّاعَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ التَّبَتُّلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}. وَالتَّبَتُّلُ الِانْقِطَاعُ. وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَتْلِ وَهُوَ الْقَطْعُ. وَسُمِّيَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ الْبَتُولَ لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ، وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نُظَرَاءُ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهَا. فَفَاقَتْ نِسَاءَ الزَّمَانِ شَرَفًا وَفَضْلًا. وَقُطِعَتْ مِنْهُنَّ. وَمَصْدَرُ بَتَّلَ تَبَتُّلًا كَالتَّعَلُّمِ وَالتَّفَهُّمِ، وَلَكِنْ جَاءَ عَلَى التَّفْعِيلِ- مَصْدَرُ تَفَعَّلَ- لِسِرٍّ لِطَيْفٍ. فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلِ إِيذَانًا بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّلِ وَالتَّكَثُّرِ وَالْمُبَالَغَةِ. فَأَتَى بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَبِالْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إِلَى اللَّهِ تَبْتِيلًا، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبَتُّلًا. فَفُهِمَ الْمَعْنَيَانِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَصْدَرِهِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّبَتُّلُ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أَيِ التَّجْرِيدِ الْمَحْضِ. وَمُرَادُهُ بِالتَّجْرِيدِ الْمَحْضِ التَّبَتُّلُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَعْوَاضِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُتَبَتِّلُ كَالْأَجِيرِ الَّذِي لَا يَخْدِمُ إِلَّا لِأَجْلِ الْأُجْرَةِ. فَإِذَا أَخَذَهَا انْصَرَفَ عَنْ بَابِ الْمُسْتَأْجِرِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ يَخْدِمُ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ، لَا لِلْأُجْرَةِ. فَهُوَ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ بَابِ سَيِّدِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ آبِقًا. وَالْآبِقُ قَدْ خَرَجَ مِنْ شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِطْلَاقُ الْحُرِّيَّةِ. فَصَارَ بِذَلِكَ مَرْكُوسًا عِنْدَ سَيِّدِهِ وَعِنْدَ عَبِيدِهِ. وَغَايَةُ شَرَفِ النَّفْسِ دُخُولُهَا تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَمَحَبَّةً، لَا كَرْهًا وَقَهْرًا. كَمَا قِيلَ: شَرَفُ النُّفُوسِ دُخُولُهَا فِي رِقِّهِمْ *** وَالْعَبْدُ يَحْوِي الْفَخْرَ بِالتَّمْلِيكِ وَالَّذِي حَسُنَ اسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِهِ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَنَّهُ تَعَالَى صَاحِبُ دَعْوَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لِدَاعِيهِ بِهَا ثَوَابًا. فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا لِذَاتِهِ. فَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَيُدْعَى وَحْدَهُ، وَيُقْصَدَ وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيُحَبَّ وَيُرْجَى وَيُخَافَ، وَيُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَعَانَ بِهِ، وَيُسْتَجَارَ بِهِ، وَيُلْجَأَ إِلَيْهِ، وَيُصْمَدَ إِلَيْهِ. فَتَكُونُ الدَّعْوَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْحَقُّ لَهُ وَحْدَهُ. وَمَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ هَذَا- مَعْرِفَةً وَذَوْقًا وَحَالًا- صَحَّ لَهُ مَقَامُ التَّبَتُّلِ، وَالتَّجْرِيدِ الْمَحْضِ. وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ دَعْوَةَ الْحَقِّ الْمُرَادِ بِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَالصِّدْقِ. وَمُرَادُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ بِالْإِخْلَاصِ. وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ. وَدَعْوَةُ الْحَقِّ دَعْوَةُ الْإِلَهِيَّةِ وَحُقُوقُهَا وَتَجْرِيدُهَا وَإِخْلَاصُهَا.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ التَّبَتُّلِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْحُظُوظِ وَاللُّحُوظُ إِلَى الْعَالَمِ، خَوْفًا أَوْ رَجَاءً، أَوْ مُبَالَاةً بِحَالٍ. قُلْتُ: التَّبَتُّلُ يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ اتِّصَالًا وَانْفِصَالًا. لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِمَا. فَالِانْفِصَالُ: انْقِطَاعُ قَلْبِهِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ الْمُزَاحِمَةِ لِمُرَادِ الرَّبِّ مِنْهُ. وَعَنِ الْتِفَاتِ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، خَوْفًا مِنْهُ، أَوْ رَغْبَةً فِيهِ، أَوْ مُبَالَاةً بِهِ، أَوْ فِكْرًا فِيهِ، بِحَيْثُ يُشْغَلُ قَلْبُهُ عَنِ اللَّهِ. وَالِاتِّصَالُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَهُوَ اتِّصَالُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ، وَإِقَامَةُ وَجْهِهِ لَهُ، حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يُعِينُ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ. فَقَالَ: بِحَسْمِ الرَّجَاءِ بِالرِّضَا، وَقَطْعِ الْخَوْفِ بِالتَّسْلِيمِ، وَرَفْضِ الْمُبَالَاةِ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ. يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ قَلْبِكَ هُوَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَسْمِهِ لَكَ. فَمَنْ رَضِيَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ، لَمْ يَبْقَ لِرَجَاءِ الْخَلْقِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ. وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْخَوْفِ مِنَ الْقَلْبِ هُوَ التَّسْلِيمُ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَاسْتَسْلَمَ لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ- لَمْ يَبْقَ لِخَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ أَيْضًا. فَإِنَّ نَفْسَهُ الَّتِي يَخَافُ عَلَيْهَا قَدْ سَلَّمَهَا إِلَى وَلِيِّهَا وَمَوْلَاهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهَا. وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهَا لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهَا. فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهٍ. وَفِي التَّسْلِيمِ أَيْضًا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ فَوَائِدِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ. وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَهَا اللَّهُ فَقَدْ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ. وَأَحْرَزَهَا فِي حِرْزِهِ. وَجَعَلَهَا تَحْتَ كَنَفِهِ. حَيْثُ لَا تَنَالُهَا يَدُ عَدُوٍّ عَادٍ وَلَا بَغْيُ بَاغٍ عَاتٍ. وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَمَا وَجْهُ الْمُبَالَاةِ بِالْخَلْقِ بَعْدَ هَذَا الشُّهُودِ؟
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ التَّبَتُّلِ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلَى النَّفْسِ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى. وَتَنَسُّمِ رَوْحِ الْأُنْسِ، وَشَيْمِ بَرْقِ الْكَشْفِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى انْقِطَاعٌ عَنِ الْخَلْقِ، وَهَذِهِ انْقِطَاعٌ عَنِ النَّفْسِ. وَجَعَلَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: مُجَانَبَةُ الْهَوَى وَمُخَالَفَتُهُ وَنَهْيُ نَفْسِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ يَصُدُّ عَنِ التَّبَتُّلِ. وَثَانِيهَا:- وَهُوَ بَعْدَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى- تَنَسُّمُ رَوْحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَالرَّوْحُ لِلرُّوحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَهُوَ رُوحُهَا وَرَاحَتُهَا. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ هَذَا الرَّوْحُ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْ هَوَاهُ. فَحِينَئِذٍ تَنَسَّمَ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَوَجَدَ رَائِحَتَهُ. إِذِ النَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ التَّعَلُّقِ. فَلَمَّا انْقَطَعَ تَعَلُّقُهَا مِنْ هَوَاهَا وَجَدَتْ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَهَبَّتْ عَلَيْهَا نَسَمَاتُهُ. فَرَيَّحَتْهَا وَأَحْيَتْهَا. وَثَالِثُهَا: شَيْمُ بَرْقِ الْكَشْفِ. وَهُوَ مُطَالَعَتُهُ وَاسْتِشْرَافُهُ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ. لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الْغَيْثِ وَمَسَاقِطَ الرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِالْكَشْفِ هَاهُنَا الْكَشْفُ الْجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ، الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالْكَشْفِ عَنْ مُخَبَّآتِ النَّاسِ وَمَسْتُورِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هُنَّ مُنْتَهَى كَشْفِ الصَّادِقِينَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ. أَحَدُهَا: الْكَشْفُ عَنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ. وَالثَّانِي: الْكَشْفُ عَنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُفَسَّدَاتِهَا. وَالثَّالِثُ: الْكَشْفُ عَنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ عُلُومِ الْقَوْمِ. وَعَلَيْهَا يَحُومُونَ. وَحَوْلَهَا يُدَنْدِنُونَ. وَإِلَيْهَا يُشَمِّرُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ وَمُعْظَمُهُ فِي السَّيْرِ وَصِفَةِ الْمَنَازِلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي الْآفَاتِ وَالْقَوَاطِعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالصَّادِقُ الذَّكِيُّ يَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ. فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَطْلَبِهِ. وَلَا يَرُدُّ مَا يَجِدُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْحَقِّ الْآخَرِ. وَيَهْدِرُهُ بِهِ. فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ التَّبَتُّلِ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ إِلَى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ، وَالنَّظَرِ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ. لَمَّا جَعَلَ الدَّرَجَةَ الْأُولَى انْقِطَاعًا عَنِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِيَةُ انْقِطَاعًا عَنِ النَّفْسِ، جَعَلَ الثَّالِثَةَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ. وَجَعَلَهُ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ. وَلُزُومُ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَحَابِّهِ. ثُمَّ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ. وَهُوَ أَنْ يَشْغَلَهُ طَلَبُ الْوُصُولِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ هُمُومَهُ وَعَزَائِمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَوْقَاتَهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ بُدُوِّ بَرْقِ الْكَشْفِ الْمَذْكُورِ لَهُ. وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ فَالْجَمْعُ هُوَ قِيَامُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالْحَقِّ وَحْدَهُ. وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَالنَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ ذَلِكَ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَبِدَايَاتِهِ. وَهِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى وَادِي الْفَنَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَقْفَةٌ تَعْتَرِضُ الْقَاطِعَ لِأَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْجَمْعِ. وَمِنْهَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْوَقْفَةُ تَعْتَرِضُ كُلَّ طَالِبِ مَجْدٍ فِي طَلَبِهِ. فَمِنْهَا يَرْجِعُ عَلَى عَقِبِهِ، أَوْ يَصِلُ إِلَى مَطْلَبِهِ كَمَا قِيلَ: لَابُدَّ لِلْعَاشِقِ مِنْ وَقْفَةٍ مَا بَيْنَ سُلْوَانٍ وَبَيْنَ غَرَامِ *** وَعِنْدَهَا يَنْقِلُ أَقْدَامَهُ إِمَّا إِلَى خَلْفٍ وَإِمَّا أَمَامِ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَوَائِلَ الْجَمْعِ مَبَادِئُهُ وَلَوَائِحُهُ وَبَوَارِقُهُ. وَبَعْدَ هَذَا دَرَجَةٌ رَابِعَةٌ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ دَرَجَاتِ التَّبَتُّلِ. وَهِيَ الِانْقِطَاعُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ رَبِّهِ. وَالْفَنَاءُ عَنْهُ إِلَى مُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَالْفَنَاءِ بِهِ. فَلَا يُرِيدُ مِنْهُ، بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ، مُنْقَطِعًا بِهِ عَنْ كُلِّ إِرَادَةٍ. فَيَنْظُرُ فِي أَوَائِلِ الْجَمْعِ فِي مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَأَكْثَرُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ عِنْدَهُمْ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فَرْقٌ،{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} جَمْعٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ. فَهُوَ يُعْرِضُ عَنِ الْجَمْعِ إِلَى الْفَرْقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ نَاقِصٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَيَرَى سُوءَ حَالِ أَهْلِهِ وَتَشَتُّتَهُمْ. فَيَرْغَبُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الْجَمْعِ. يَتَوَجَّهُ مَعَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ. وَالْمُسْتَقِيمُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ السَّالِكِ مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ، وَقِيَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِهِمَا. فَمَنْ لَا تَفْرِقَةَ لَهُ لَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. وَمَنْ لَا جَمْعَ لَهُ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ وَلَا حَالَ. فَـ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فَرْقٌ.:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} جَمْعٌ. وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلًّا مِنْ مَشْهَدَيْ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مُتَضَمِّنٌ لِلْفَرْقِ وَالْجَمْعِ، وَكَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ بِهِمَا فِي كُلِّ مَشْهَدٍ. فَفَرْقُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تَنَوُّعُ مَا يُعْبَدُ بِهِ، وَكَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِ وَضُرُوبِهِ. وَجَمْعُهُ: تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَالْفَنَاءُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ وَمُرَادٍ يُزَاحِمُ حَقَّهُ وَمُرَادَهُ. فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَشْهَدُ فَرْقًا فِي جَمْعٍ، وَكَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ. فَصَاحِبُهُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَأَمَّا فَرْقُ:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَشُهُودُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَرْتَبَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ، وَمَحَلَّهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِدَايَتَهُ وَعَاقِبَتَهُ، وَاتِّصَالَهُ- بَلْ وَانْفِصَالَهُ- وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ. وَيَشْهَدُ- مَعَ ذَلِكَ- فَقْرَ الْمُسْتَعِينِ وَحَاجَتَهُ وَنَقْصَهُ، وَضَرُورَتَهُ إِلَى كَمَالَاتِهِ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَآفَاتَهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي دَفْعِهَا. وَيَشْهَدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَكِفَايَةَ الْمُسْتَعَانِ بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فَرْقٌ يُثْمِرُ عُبُودِيَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ: فَشُهُودُ تَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَصُدُورِ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَتَصْرِيفِهَا بِإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَغَيْبَتُهُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرْقِ: نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ دُونَ مُلَاحَظَتِهِ: نَقْصٌ أَيْضًا. وَالْكَمَالُ إِعْطَاءُ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ حَقَّهُمَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ وَالْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ. فَتَبَيَّنَ تَضَمُّنُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِلْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
|